ابحث في هذه المدونة

الاثنين، 15 يونيو 2009

موازنة بين الحمل عند ابن تيمية وجمهور الأصوليين

. أنموذج الحمل عند ابن تيمية

يبدو أنموذج ابن تيمية للحمل –موازنة بأنموذج الجمهور الذي شرح سابقا- أقلّ تعقيداّ. وسأوجز فيما سيأتي أنموذج الجمهور، ثم أبين باختصار الفرق بين الأنموذجين:

مثلما أوضحنا سابقًا، يتألف أنموذج الجمهور من الأصول الآتية:

1) بيان المتكلم: يميل المتكلم إلى إيضاح مراده ما أمكنه ذلك،

2) صدق المتكلم: يحمل كلام المتكلم على أنه صادق،

3) الإعمال: يبذل السامع جهده في جعل النص مفيدًا،

4) التبادر: يحمل السامع المعنى الذي يسبق إلى ذهنه أوّلاً على أنه المعنى المراد،

5) الاستصحاب: يحمل السامع المعنى المطابق للأصول الوضعية على أنه المعنى المراد.

من الواضح أن هناك تشابهًا مثيرًا للاهتمام بين مبدأ "التبادر"، ومبدأ "الاستصحاب"، ولكن ثمة أيضًا فرق بينهما، وهو ما جعل أنموذجي الجمهور وابن تيمية يفترقان، فبينما يعمل التبادر في ضوء المقام التخاطبي كاملاً، يقتصر عمل الاستصحاب على حكم الأصل؛ أي أنه يعمل بمعزل عن السياقات الفعلية في المقام التخاطبي.

ويلجأ السلفيّون -نتيجة لهذا الفرق- إلى مبدأ التبادر بدلاً من الاستصحاب لانسجامه البيّن مع اعتقادهم بأنه لا يمكن أن تكون هناك محامل سليمة بمعزل عن المقامات التخاطبية. إلى جانب ذلك، يعتقد السلفيون أن مبدأ الاستصحاب لا يتمشى مع مبدأ البيان، الذي يؤلف مع مبدأ التبادر الافتراضات الأساسية في أنموذج الحمل عندهم. وقد دافعوا عن موقفهم في هذا الشأن بالإشارة إلى أنه في اكتشاف دلالة القولة لا ينبغي للسامع أن ينتقل من معنى حقيقي أصلي إلى معنى مجازي فرعي. بل إن السلفيين يعتقدون أن المعنى المراد يخطر على ذهن السامع مباشرة بمقتضى مبدئي البيان والتبادر. وبعبارة أخرى، فإن ذهن السامع يذهب إلى مراد المتكلم دون الحاجة إلى معان متوسطة؛ لأن القرينة، وليس المعنى المستقل عنها، هي التي تزودنا بالمرشد الفعلي إلى مراد المتكلم.

دعنا الآن نناقش الفرق بين أنموذج الحمل عند ابن تيمية، وأنموذج الحمل عند الجمهور في التعامل مع هذا المثال: "رأيت أسدًا يخطب على المنبر".

ولنبدأ بأنموذج الجمهور:

1- يحمل السامع كلمة "أسد" على معناها الحقيقي (بمقتضى مبدأي الاستصحاب، والحقيقة)،

2- يدرك السامع أن هذا المعنى غير مناسب (بمقتضى قرينة مانعة)،

3- يفترض السامع أن المتكلم لا يكذب (مبدأ الصدق)،

4- إذن لابد أن المتكلم يقصد معنى آخر؛ إذ إن الكلام لا يمكن أن يكون بلا معنى (مبدأ الإعمال)،

5- يستنتج السامع أن المتكلم يقصد بالأسد الرجل الشجاع (قرينة دالة هي: " يخطب على المنبر").

لننتقل الآن إلى أنموذج ابن تيمية:

1- يفترض السامع أن المتكلم حريص على بيان مراده، ولذا فهو ينصب له قرينة مناسبة كافية لإظهار مراده التخاطبي (مبدأ البيان)،

2- ينتمي كلا المتخاطبين: المتكلم والسامع إلى مجتمع لغوي واحد، والسامع يعرف عادة المتكلم بخطابه (افتراض معرفة عادة المتكلم)،

3- يفترض السامع أن المتكلم يتكلم وفقا لعادته (مبدأ البيان)،

4- بعد استيفاء كل الشروط السابقة، يستنتج السامع أن المتكلم يقصد بالأسد الرجل الشجاع؛ لأن هذا هو أول حمل يخطر على باله (القرينة الدالة، مبدأ التبادر).

إن أهم فرق بين أنموذج الحمل عند الجمهور، وأنموذج الحمل عند ابن تيمية هو أن أنموذج الجمهور يفترض أن السامع يميل إلى صوغ محمل واحد على أنه الأرجح لأن يكون مراد المتكلم، ويفترض أن المحامل الأخرى ممكنة. فإذا استبعد المحمل الأول (الذي يصاغ وفقا للأصول) بقرينة مانعة، فسيبحث السامع عن محامل أخرى إلى أن يجد محملا مناسبًا. أما أنموذج ابن تيميّة فيفترض أن السامع يذهب مباشرة إلى المحمل المناسب للسياق؛ ولذا يمكن وصف أنموذج الجمهور بأنه ظني؛ لأنه يترك المجال مفتوحا لمحامل أخرى ممكنة، في حين يوصف أنموذج ابن تيمية بأنه قطعي.

من الفصل الرابع من كتاب علم التخاطب الإسلامي

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق